السبت، 13 ديسمبر 2014

إعاقة بلا يأس - قصـة قصيرة - من تأليف م. منذر المتربيعي

إعاقة بلا يأس
قصـة قصيرة - من تأليف  م. منذر المتربيعي

          لفت نظري مشهد غريب أثناء سيري إلى عملي في ذاك الصباح الباكر، وبينما أنا أمد عيني في الأفق البعيد أرقب سيارة خوف أن تبتل ملابسي من مطر الشتاء، إذ سمعت صوت أطفال يتهامسون على جانب الطريق، التفت حولي فلم أجد أحداً فواصلت المسير.
كانت السماء ملبدة بالغيوم، صوت الرعد يهز المكان، وسنا البرق يلمع في السماء، فإذا بالمطر ينهمر. تلمست حائطاً أستتر به فإذا بين ثنايا الطريق طفلين صغيرين يتخافتان الحديث، وعيونهما ترقبني على وجل من بعيد، تمثلت بأني أصلح قبعتي وأرخيت سمعي وسرت على حافة الرصيف حتى اقتربت منهما.
طفلين صغيرين يتستران عربة من الخشب عليها بعض الحاجيات والقليل من أقراص الحلوى. خطر ببالي أنهما أخوين كأطفال الشوارع ممن يلحقون بالسيارات على مفارق الطريق. يقول لأخته يبدو أنه المدير لو رآنا لضاع كل شيء. نظرت إلي بعينيها اللامعتين وقالت: لا ليس هو.
شغلني حالهما، وقفت لحظة فوضعت يدي خلف معطفي فإذا هما يرقبان، أخرجت محفظتي واتجهت نحوهما، تعللت بأني أريد أن أشتري بعض الحاجيات فكأنهما استراحا.
حزنت لمشهد الطفل إذ يجلس وراء عربة الحاجيات على كرسي معاق بعجلات يحركها بيده، وأخته تقف بجانبه وعيونها السوداء ترقبني وكنت متجها نحوها. نظرت أسفل العربة فإذا بها حقيبة المدرسة، وعلمت أنها ليست مما يباع ويشترى فوقع في نفسي أنهما ليسا كما ظننت بادئ الأمر.
اشتريت بعض أقراص الحلوى ثم نظرت إلى الحقيبة وسألتهما، بكم هذه؟ نظرت إلى أخيها مندهشة وكأنها تلعثمت فأجابني أخوها بأنها ليست من الأغراض التي يبيعها.
تبسمت في وجهه، وقلت لها - الجو بارد هذا اليوم، أليس كذلك؟ فلم تقل شيئا، وكنت قاصداً سماع صوتها فسألتها مرة أخرى – هل تذهبين إلى المدرسة؟ فأومأت إلي برأسها ولم تجب، فكأن العبرات اختنقتها، وكأني رأيت الدمع سال من عينها، فمسحت على رأسها وأخرجت من حقيبتي شيئاً من قصص الأطفال فأعطيتها، فحاولت أن تبسمت وأرادت أن تقول شيئاً فتلعثمت، وأشارت إلي ببعض الحركات في يدها وأخرجت شيئاً من صوتها، فتأسفت لحالها. نظرت إلى ساعة في يدها فبدا في وجهها أنها استعجلت أمراً، أشارت بيدها إلى أخيها وما فهمت قولها، غير أني فهمت أنه حان موعد ذهابها.
كرهت أن أطيل عليهما فجمعت أغراضي وانصرفت، ترددت بادئاً ثم اتصلت بصاحب العمل معتذرا عن مغيب ذلك اليوم، وتلمست الشارع القريب حتى تخفيت بين المارة ثم عدت أدراجي حيث كنت فوجدت الطفلة راعشة تجر العربة نحو الشجرة من قطرات المطر المنهمر، وتبعدها عن صرخات صاحب الموقف الذي راح يصرخ في وجهها ويتهمها بخدش سيارته، وهي تبكي وتنكر قوله، والناس حولها ينظرون، حتى قام شاهد منهم فأخبره بحقيقة الامر، ثم انفض الجمع من حولها، فأسندت رأسها إلى جذع الشجرة ونظرت إلى السماء وسالت قطرات من عينها حتى لامست ماء المطر السائل على جانب الرصيف.
نظرت حولي فلم أجد أخاها فخطر ببالي أنه قد ذهب إلى المدرسة. عندها تلمست زيارة لأحد أصدقائي هناك وبقيت معه نتجاذب أطراف الحديث، احتسينا أكواب الشاي ثم انصرفت شطر البيت، كان وقت العودة من المدرسة قد حان، وقد امتلأت الحارات بالأطفال يتراشقون البرد الابيض ويلقون بالحجارة في أحواض الماء البارك في ثنايا الطريق. ثم إني رأيت ما راعني، إذ بدا الطفلان من بعيد وقد عادا أدراجهما، فالطفل ذاته يحمل حقيبة المدرسة على قدميه ويدير العجلة بيديه ويكابد الطريق، وأخته من حوله تجر أخشاب العربة، تقف لحظة فتشري الصبية أقراص الحلوى ثم تعاود سيرها وقد بدا عليها مشاق الطريق.
أعجبني شأنهما وتقفيت آثارهما، وأحببت لهما أن أساعدهما فانتبها، أسرعا وصارا يلهثا، غير أني تلطفت معهما برقائق الحديث حتى اطمئنا فأسندا إلى عربة الحلوى، فوضعت حقيبتي على كتفي وتناولت العربية بيدي، ثم إنا تشاطرنا الطريق فكانت هي تحدي أخاها، فتعثر العربة بأحجار الأرض، ثم تغوص في برك المستنقع فتحاول جهدها، ثم تمضي، وأنا أجر العربة وألتفت حولي، ثم أعاود النظر إليهما فيتبسما ، ودار بيننا حوار لطيف، سألتهم وسألاني عن عملي فأحبا طفولتي، وسرنا معاً على أعتاب الطريق حتى وصلنا، فقلت لهما طابت ليلتكما، وواعدتهما بزيارة عما قريب.
كانت الشمس قد أشرقت للغروب بعد نهار ملبد بالغيوم، وقد لاحت بالأفق ألوان الغسق فتلألأت قطرات المطر على أوراق الشجر، ولا زلت سائرا بين المحال حتى انتهيت الى بيتي فآواني المبيت.
مضت بي الأيام والأعوام، وعدت من سفر بعيد فعاودتني ذكريات المكان. أصابني شيء من التعب فأسندت يدى على تلك الشجرة، تحاملت عكازتي وسرت في الطريق إلى بيتهما وافيا وعدى لهما. طرقت الباب حتى دخلت لزيارتهما فلم أجدهما، وكان في البيت شيخ هرم يجلس في زاوية الغرفة على أرض المخيم، وحوله صبيه يلعبون، وفى ايديهم قصاصات من أوراق الحكايات البالية، هي أشبه ما تكون بشيء أعرفه.
تجاذبنا اطراف الحديث فحكى لي قصته وأخبرني عن داره وبستانه وما آل الأمر إلى حاله, وكان من حديثي له ان سألته عن صغيرين كانا هنا، فأخبرني أنه جدهما وحدثني ما يسرني عنهما فاستراح صدري وعدت قافلا الى بيتي.
طويت مظلتي، ووضعت عكازتي، ونشرت أوراقي، وخط قلمي قصة عودتي، وكان مما كتبت:
" فلما اشتد بي المرض وكنت على الفراش جيء بالطبيب، فاذا هو شاب وسيم، يبدو الوقار على وجهه، يجلس على كرسي قعيد, يجر عربته بيده، ويضع سماعة في عنقه، رفع مؤشر الحرارة من فمي،  ووضع يده على صدري، نظر الى ونظرت اليه، فكأني عرفته وكأنه عرفني، فأخذني بعناق طويل..."

       

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق